فصل: قال الخازن:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الخازن:

{وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1)}
قوله: {ويل} أي قبح وهي كلمة تذكر عند وقوع البلاء، يقال ويل له وويل عليه، وقيل ويل اسم واد في جهنم {للمطففين} يعني الذين ينقصون المكيال والميزان لأنه لا يكاد المطفف يسرق في الكيل والوزن، إلا الشيء اليسير الطّفيف قال ابن عباس: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة كانوا من أخبث النّاس كيلاً.
فأنزل الله: {ويل للمطففين} فأحسنوا الكيل، وقيل لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وبها رجل يقال له أبو جهينة، ومعه صاعان يكيل بأحدهما، ويكتال بالآخر، فأنزل الله هذه الآية وجعل الويل للمطففين ثم بين من هم.
فقال تعالى: {الذين إذا اكتالوا على النّاس يستوفون} يعني أنهم إذا اكتالوا من النّاس، ومن وعلى يتعاقبان، وقيل معناه إذا اكتالوا من النّاس، أي اشتروا شيئاً استوفوا عليهم لأنفسهم الكيل والوزن.
{وإذا كالوهم أو وزنوهم} يعني وإذا كالوا لهم أو وزنوا لهم للناس كما يقال نصحتك ونصحت لك.
{يخسرون} أي ينقصون الكيل والوزن وهذا الوعيد يلحق من يأخذ لنفسه زائداً ويدفع إلى غيره ناقصاً، ويتناول الوعيد القليل والكثير لكن إذا لم يتب منه فإن تاب منه ورد الحقوق إلى أهلها قبلت توبته ومن فعل ذلك، وأصر عليه كان مصراً على كبيرة من الكبائر، وذلك لأن عامة الخلق محتاجون إلى المعاملات وهي مبنية على أمر الكيل والوزن والذرع، فلهذا السبب عظم الله أمر الكيل والوزن، قال نافع: كان ابن عمر يمر بالبائع فيقول له اتق الله أوف الكيل والوزن، فإن المطففين يوقفون يوم القيامة حتى يلجمهم العرق، وقال قتادة: أوف يا ابن آدم كما تحب أن يوفى لك، واعدل كما تحب أن يعدل لك، قال الفضيل: بخس الميزان سواد يوم القيامة.
{ألا يظن} أي ألا يعلم ويستيقن {أولئك} أي الذين يفعلون هذا الفعل، وهم المطففون {أنهم مبعوثون ليوم عظيم} يعني يوم القيامة {يوم يقوم النّاس} يعني من قبورهم {لرب العالمين} أي لأمره وجزائه وحسابه.
(ق) عن نافع «أن ابن عمر تلا {ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم يوم يقوم النّاس لرب العالمين}، قال يقوم أحدهم في رشحه إلى أنصاف أذنيه»، وروي مرفوعاً عن المقداد قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «تدنو الشّمس من رؤوس الخلائق يوم القيامة حتى تكون منهم كمقدار ميل» زاد التّرمذي «أو ميلين» قال سليم بن عامر والله ما أدري ما يعني بالميل مسافة الأرض، أو الميل ما تكتحل به العين قال: «فيكون النّاس على قدر أعمالهم في العرق فمنهم من يكون إلى كعبيه ومنهم من يكون إلى ركبتيه ومنهم من يكون إلى حقويه ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً، وأشار رسول الله صلى الله عليه وسلم بيديه إلى فيه» قوله: {كلا} قيل إنه ردع وتنبيه أي ليس الأمر على ما هم عليه من بخس الكيل والميزان، فليرتدعوا عنه فعلى هذا تم الكلام هنا، وقيل كلا ابتداء يتصل بما بعده على معنى حقًّا {إن كتاب الفجار} أي الذي كتبت فيه أعمالهم {لفي سجين} قال ابن عمر هي الأرض السابعة السفلى، وفيها أرواح الكفار وروى البغوي بإسناد الثعلبي عن البراء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سجين أسفل سبع أرضين وعليون في السماء السابعة تحت العرش» وقال شمر بن عطية: جاء ابن عباس إلى كعب الأحبار فقال: أخبرني عن قول الله: {إن كتاب الفجار لفي سجين} قال إن روح الفاجر يصعد بها إلى السماء، فتأبى السماء أن تقبلها ثم يهبط بها إلى الأرض، فتأبى أن تقبلها فتدخل تحت سبع أرضين حتى ينتهى بها إلى سجين، وهو موضع جند إبليس فيخرج لها من سجين رق، فليتم ويختم ويوضع تحت جند إبليس لمعرفتها الهلاك بحساب يوم القيامة، وقيل هي صخرة تحت الأرض السابعة السفلى خضراء خضرة السماء منها فتقلب، ويجعل كتاب الفجار تحتها، قال وهب: هي آخر سلطان إبليس.
وجاء في الحديث: {وما أدراك ما سجين} أي ليس ذلك مما كنت تعلمه أنت، ولا قومك، وقيل إنما قال ذلك تعظيماً لأمر سجين {كتاب مرقوم} ليس هذا تفسيراً للسجن وإنما هو بيان للكتاب المذكور في قوله: {إن كتاب الفجار} والمعنى إن كتاب الفجار مرقوم أي مكتوب فيه أعمالهم مثبتة عليهم كالرقم في الثّوب لا ينسى ولا يمحى حتى يحاسبوا به، ويجازوا عليه، وقيل {مرقوم} رقم عليه بشر كأنه علم بعلامة يعرف بها أنه كافر، وقيل {مرقوم} أي مختوم وهو بلغة حمير {ويل يومئذ للمكذبين} قيل إنه متصل بقوله: {يوم يقوم النّاس لرب العالمين} ومعنى الآية ويل لمن كذب بهذا اليوم، وقيل معناه مرقوم بالشّقاوة، ثم قال: {ويل يومئذ للمكذبين} أي في ذلك اليوم من ذلك الكتاب المرقوم عليهم بالشقاوة {الذين يكذبون بيوم الدين} أي بيوم القيامة لأنه يوم الجزاء {وما يكذب به} أي بيوم القيامة {إلا كل معتد} أي متجاوز عن نهج الحق {أثيم} هو مبالغة في الآثم وهو المرتكب الإثم والمعاصي {إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين} أي أكاذيب الأولين.
قوله: {كلا} أي لا يؤمن ثم استأنف فقال: {بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون} عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن العبد إن أخطأ خطيئة نكت في قلبه نكتة فإذا هو نزع واستغفر وتاب صقل قلبه وإن عاد زيد فيها حتى تعلو قلبه، وهو الران الذي قال الله: {بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون}» أخرجه التّرمذي وقال: حديث حسن صحيح وأصل الرّان الغلبة ومعنى الآية أن الذّنوب والمعاصي غلبت على قلوبهم وأحاطت بها، وقيل هو الذنب على الذّنب حتى يميت القلب وقال ابن عباس: ران على قلوبهم طبع عليها، وقيل الرين أن يسود القلب من الذّنوب، والطّبع أن يطبع على القلب وهو أشد من الرّين والإقفال أشد من الطّبع وقيل الرّين التغطية، والمعنى أنه يغشى القلب شيء كالصدى فيغطيه فعند ذلك يموت القلب.
{كلا} قال ابن عباس يريد لا يصدقون وقيل معناه ليس الأمر كما يقولون إن لهم في الاخرة خيراً ثم استأنف فقال تعالى: {إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون} قيل عن كرامته ورحمته ممنوعون، وقيل إن الله لا ينظر إليهم ولا يزكيهم وهذا التّفسير فيه ضعف أما حمله على منع الكرامة والرّحمة فهو عدول عن الظّاهر بغير دليل، وكذا الوجه الثاني فإن من حجب عن الله فإن الله لا ينظر إليه نظر رحمة، ولا يزكيه والذي ذهب إليه أكثر المفسرين أنهم محجوبون عن رؤية الله، وهذا هو الصّحيح واحتج بهذه الآية من أثبت الرّؤية للمؤمنين قالوا: لولا ذلك لم يكن للتّخصيص فائدة، ووجه آخر وهو أنه تعالى ذكر الحجاب في معرض الوعيد والتّهديد للكفار، وما يكون وعيداً وتهديداً للكفار لا يجوز حصوله في حق المؤمنين، فوجب أن لا يحصل هذا الحجاب في حق المؤمنين قال الحسن: لو عمل الزّاهدون والعابدون أنهم لا يرون ربهم في المعاد لزهقت أنفسهم في الدّنيا.
وقيل كما حجبهم في الدّنيا عن توحيده حجبهم في الآخرة عن رؤيته وسئل مالك عن هذه الآية، فقال: لما حجب الله أعداءه فلم يروه تجلى لأوليائه حتى رأوه، وقال الشافعي في قوله: {كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون} دلالة على أن أولياء الله يرون الله جلّ جلاله وعنه كما حجب قوماً بالسّخط دل على أن قوماً يرونه بالرضا، ثم أخبر أن الكفار مع كونهم محجوبون عن الله يدخلون النّار.
فقال عز من قائل: {ثم إنهم لصالوا الجحيم} أي لداخلو النّار {ثم يقال} أي تقول لهم الخزنة {هذا} أي هذا العذاب {الذي كنتم به تكذبون} يعني في الدنيا {كلا} أي ليس الأمر كما يتوهمه الفجار من إنكار البعث، وقيل كلا أي لا يؤمنون بالعذاب الذي يصلونه، ثم بين محل {كتاب الأبرار} فقال تعالى: {إن كتاب الأبرار لفي عليين} جمع على من العلو، وقيل هو موضوع على صفة الجمع لا واحد له من لفظه وتقدم من حديث البراء المرفوع إن {عليين} في السّماء السابعة تحت العرش وقال ابن عباس: هو لوح من زبرجدة خضراء معلق تحت العرش أعمالهم مكتوبة فيه، وقيل هو قائمة العرش اليمنى وقال ابن عباس في رواية عنه هي الجنة، وقيل هي سدرة المنتهى، وقيل معناه علو بعد علو وشرف بعد شرف، وقيل هي مراتب عالية محفوفة بالجلالة وقد عظّمها الله وأعلاها.
{وما أدراك ما عليون} تنبيهاً له على عظم شأنه {كتاب مرقوم} ليس تفسير العليين، والمعنى أن كتاب الأبرار كتاب مرقوم في عليين فيه ما أعد لهم في الآخرة من الكرامة، وقيل مكتوب فيه أعمالهم وعليون محل الملائكة وضده سجين، وهو محل إبليس وجنوده.
{يشهده المقربون} يعني الملائكة الذين هم في عليين يشهدون، أي يحضرون ذلك المكتوب ومن قال إنه كتاب الأعمال قال: يشهد ذلك الكتاب إذا صعد به إلى عليين المقربون من الملائكة لكرامة المؤمن.
قوله تعالى: {إن الأبرار} يعني المطيعين لله {لفي نعيم} يعني نعيم الجنة {على الأرائك} جمع أريكة وهي الأسرة في الحجال {ينظرون} أي إلى ما أعد الله لهم من نعيم الجنة، وقيل ينظرون إلى أعدائهم كيف يعذبون في النّار، وقيل ينظرون إلى ربهم سبحانه وتعالى: {تعرف في وجوههم نضرة النعيم} يعني أنك إذا رأيتهم تعرف أنهم من أهل النعمة لما ترى على وجوههم من النّور والحسن والبياض، قيل النضرة في الوجه والسرور في القلب {يسقون من رحيق} يعني الخمر الصّافية الطّيبة البيضاء {مختوم} يعني ختم على ذلك الشراب ومنع من أن تمسه الأيدي إلى أن يفك ختمه الأبرار.
فإن قلت قد قال في سورة محمد صلى الله عليه وسلم {وأنهار من خمر} والنهر لا يختم عليه فكيف طريق الجمع بين الآيتين، قلت يحتمل أن يكون المذكور في هذه الآية في أوان مختوم عليها، وهي غير تلك الخمر التي في الأنهار، وإنما ختم عليها لشرفها ونفاستها {ختامه مسك} أي طينته التي ختم عليه بها مسك بخلاف خمر الدّنيا فإن ختامها طين وقال ابن مسعود مختوم أي ممزوج ختامه أي آخر طعمه، وعاقبته مسك، وقيل يمزج لهم بالكافور ويختم لهم بالمسك {وفي ذلك فليتنافس المتنافسون} أي فليرغب الرّاغبون بالمبادرة إلى طاعة الله، ليحصل لهم هذا الشّراب المختوم بالمسك وقيل أصله من الشيء النّفيس الذي تحرص عليه نفوس الناس، ويريده كل أحد لنفسه وينفس به على غيره أي يضن ويبخل {ومزاجه من تسنيم} أي شراب ينصب عليهم من غرفهم ومنازلهم وقيل يجري في الهواء مسنماً فيصب في أواني أهل الجنة على قدر ملئها فإذا امتلأت أمسك وأصل هذه الكلمة من العلو ومنه سنام البعير لأنه أعلاه، وقيل هو شراب اسمه تسنيم وهو من أشرف شراب أهل الجنة.
وقال ابن مسعود وابن عباس: هو خالص للمقربين يشربونه صرفاً ويمزج لسائر أهل الجنة، وسئل ابن عباس عن قوله: {من تسنيم} فقال: هذا مما قال الله تعالى: {فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين}.
{عيناً يشرب بها} أي منها وقيل يشربها {المقربون} أي صرفاً وقوله: {إن الذين أجرموا} أي أشركوا يعني كفار قريش أبا جهل والوليد بن المغيرة والعاص بن وائل وأصحابهم من مترفي أهل مكة {كانوا من الذين آمنوا} أي من عمار وخباب وصهيب وبلال وأصحابهم من فقراء المؤمنين {يضحكون} أي منهم ويستهزئون بهم {وإذا مروا بهم} يعني مر المؤمنون الفقراء بالكفار الأغنياء {يتغامزون} يعني يتغامز الكفار والغمز الإشارة بالجفن والحاجب أي يشيرون إليها بالأعين استهزاء بهم {وإذا انقلبوا إلى أهلهم} يعني الكفار {انقلبوا فكهين} أي معجبين بما هم فيه، وقيل ينقلبون بذكرهم كأنهم يتفكهون بحديثهم {وإذا رأوهم} يعني رأوا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم {قالوا إن هؤلاء لضالون} أي هم في ضلال يأتون محمداً ويرون أنهم على شيء.
قال الله: {وما أرسلوا} يعني المشركين {عليهم} يعني على المؤمنين {حافظين} أي لأعمالهم والمعنى أنهم لم يوكلوا بحفظ أعمالهم قوله: {فاليوم} يعني في الآخرة {الذين آمنوا من الكفار يضحكون} وسبب هذا الضحك أن الكفار لما كانوا في الدّنيا يضحكون من المؤمنين لما هم فيه من الشدة والبلاء فلما أفضوا إلى الآخرة انعكس ذلك الأمر فصار المؤمنون في السرور والنّعيم وصار الكفار في العذاب والبلاء، فضحك المؤمنون من الكافرين لما رأوا حالهم.
وقال أبو صالح: تفتح للكافرين أبواب النّار وهم فيها ويقال لهم اخرجوا فإذا انتهوا إليها أغلقت دونهم فيفعل ذلك بهم مراراً والمؤمنون ينظرون إليهم ويضحكون منهم وقال كعب بين الجنة والنّار كوى، فإذا أراد المؤمن أن ينظر إلى عدوه في الدّنيا من الكفار اطلع عليه من تلك الكوى وهو يعذب فيضحك منه فذلك قوله تعالى: {فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون}.
{على الأرائك} جمع أريكة وهو السرير ويتخذ في الحجلة وهي الكلة يزين بها البيت، وأرائك الجنة من الدر والياقوت {ينظرون} يعني إليهم وهم في النّار يعذبون قال الله تعالى: {هل ثُوِّبَ الكفار} أي جوزي الكفار {ما كانوا يفعلون} أي بالمؤمنين من الاستهزاء والضحك وهذا الاستفهام بمعنى التقرير، وثوب، وأثيب بمعنى، قال أوس:
سأجزيك أو يجزيك عني مُثَوِّبٌ ** وحسبك أن يثنى عليك وتحمدي

والله سبحانه وتعالى أعلم. اهـ.

.قال النسفي:

سورة المطففين:
مختلف فيها.
وهي ست وثلاثون آية.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{وَيْلٌ} مبتدأ خبره {لّلْمُطَفّفِينَ} للذين يبخسون حقوق الناس في الكيل والوزن {الذين إِذَا اكتالوا على الناس يستوفون} أي إذا أخذوا بالكيل من الناس يأخذون حقوقهم وافية تامة.
ولما كان اكتيالهم من الناس اكتيالاً يضرهم ويتحامل فيه عليهم أبدل على مكان من للدلالة على ذلك، ويجوز أن يتعلق {على} بـ: {يستوفون} ويقدم المفعول على الفعل لإفادة الاختصاص أي يستوفون على الناس خاصة.
وقال الفراء: (من) و(على) يعتقبان في هذا الموضع لأنه حق عليه، فإذا قال: اكتلت عليك فكأنه قال: أخذت ما عليك، وإذا قال: اكتلت منك فكأنه قال: استوفيت منك.
والضمير المنصوب في {وَإِذَا كالوهم أَوْ وزنوهم} راجع إلى الناس أي كالوا لهم أو وزنوا لهم فحذف الجار وأوصل الفعل.
وإنما لم يقل أو اتزنوا كما قيل {أَوْ وزنوهم} اكتفاء، ويحتمل أن المطففين كانوا لا يأخذون ما يكال ويوزن إلا بالمكاييل لتمكنهم بالاكتيال من الاستيفاء والسرقة لأنهم يدعدعون ويحتالون في الملء، وإذا أعطوا كالوا أو وزنوا لتمكنهم من البخس في النوعين {يخسرون} ينقصون يقال خسر الميزان وأخسره.
{أَلا يَظُنُّ أولئك أَنَّهُمْ مَّبْعُوثُونَ لِيوم عَظِيمٍ} يعني يوم القيامة.
أدخل همزة الاستفهام على (لا) النافية توبيخاً وليست (ألا) هذه للتنبيه، وفيه إنكار وتعجيب عظيم من حالهم في الاجتراء على التطفيف كأنهم لا يخطرون ببالهم ولا يخمنون تخميناً أنهم مبعوثون ومحاسبون على مقدار الذرة، ولو ظنوا أنهم يبعثون ما نقصوا في الكيل والوزن.
وعن عبد الملك بن مروان أن أعرابياً قال له: لقد سمعت ما قال الله في المطففين، أراد بذلك أن المطفف قد توجه عليه الوعيد العظيم الذي سمعت به فما ظنك بنفسك وأنت تأخذ أموال المسلمين بلا كيل ولا وزن ونصب؟! {يوم يَقُومُ الناس} بمبعوثون {لِرَبّ العالمين} لأمره وجزائه.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قرأ هذه السورة فلما بلغ هنا بكى نحيباً وامتنع من قراءة ما بعده {كَلاَّ} ردع وتنبيه أي ردعهم عما كانوا عليه من التطفيف والغفلة عن البعث والحساب، ونبههم على أنه مما يجب أن يتاب عنه ويندم عليه.
ثم اتبعه وعيد الفجار على العموم فقال: {إِنَّ كتاب الفجار} صحائف أعمالهم {لَفِى} {سجين وَمَا أَدْرَاكَ مَا سجين كتاب مرقوم} فإن قلت: قد أخبر الله تعالى عن {كتاب الفجار} بأنه {في سجين} وفسر سجيناً بـ: {كتاب مرقوم} فكأنه قيل: إن كتابهم في كتاب مرقوم فما معناه؟
قلت: سجين كتاب جامع هو ديوان الشرّ دوّن الله فيه أعمال الشياطين والكفرة من الجن والإنس، وهو كتاب مرقوم مسطور بيّن الكتابة، أو معلم يعلم من رآه أنه لا خير فيه من رقم الثياب علامتها.
والمعنى أن ما كتب من أعمال الفجار مثبت في ذلك الديوان.
وسمي سجيناً فعّيلاً من السجن وهو الحبس والتضييق لأنه سبب الحبس والتضييق في جهنم، أو لأنه مطروح تحت الأرض السابعة في مكان وحش مظلم وهو مسكن إبليس وذريته، وهو اسم علم منقول من وصف كحاتم منصرف لوجود سبب واحد وهو العلمية فحسب {وَيْلٌ يومئِذٍ} يوم يخرج المكتوب {لّلْمُكَذّبِينَ الذين يُكَذّبُونَ بِيوم الدين} الجزاء والحساب {وَمَا يُكَذّبُ بِهِ} بذلك اليوم {إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ} مجاوز للحد {أَثِيمٍ} مكتسب للإثم {إِذَا تتلى عَلَيْهِ ءاياتنا} أي القرآن {قال أساطير الأولين} أي أحاديث المتقدمين.
وقال الزجاج: أساطير أباطيل واحدها أسطورة مثل أحدوثة وأحاديث.
{كَلاَّ} ردع للمعتدي الأثيم عن هذا القول {بَلْ} نفي لما قالوا ويقف حفص على {بَل} وقيفة {رَانَ على قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} عطاها كسبهم أي غلب على قلوبهم حتى غمرها ما كانوا يكسبون من المعاصي.
وعن الحسن: الذنب بعد الذنب حتى يسودّ القلب.
وعن الضحاك: الرين موت القلب.
وعن أبي سليمان: الرين والقسوة زماماً الغفلة ودواؤهما إدمان الصوم فإن وجد بعد ذلك قسوة فليترك الإدام.
{كَلاَّ} ردع عن الكسب الرائن على القلب {إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ} عن رؤية ربهم {يومئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} لممنوعون والحجب: المنع قال الزجاج: في الآية دليل على أن المؤمنين يرون ربهم وإلا لا يكون التخصيص مفيداً.
وقال الحسين بن الفضل: كما حجبهم في الدنيا عن توحيده حجبهم في العقبى عن رؤيته.
وقال مالك بن أنس رحمه الله: لما حجب أعداءه فلم يروه تجلى لأوليائه حتى رأوه.
وقيل: عن كرامة ربهم لأنهم في الدنيا لم يشكروا نعمه فيئسوا في الآخرة عن كرامته مجازاة.
والأول أصح لأن الرؤية أقوى الكرامات فالحجب عنها دليل الحجب عن غيرها {ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُواْ الجحيم} ثم بعد كونهم محجوبين عن ربهم لداخلون النار {ثُمَّ يُقال هذا الذي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} أي هذا العذاب هو الذي كنتم تكذبون به في الدنيا وتنكرون وقوعه.
{كَلاَّ} ردع عن التكذيب {إِنَّ كتاب الأبرار} ما كتب من أعمالهم والأبرار المطيعون الذين لا يطففون ويؤمنون بالبعث لأنه ذكر في مقابلة الفجار، وبيّن الفجار بأنهم المكذبون بيوم الدين.
وعن الحسن: البر الذي لا يؤذي الذر {لَفِى عِلِّيِّينَ} هو علم لديوان الخير الذي دوّن فيه كل ما عملته الملائكة وصلحاء الثقلين منقول من جمع (على) فعيل من العلو سمي به لأنه سبب الارتفاع إلى أعالي الدرجات في الجنة، أو لأنه مرفوع في السماء السابعة حيث يسكن الكروبيون تكريماً له {وَمَا أَدْرَاكَ} ما الذي أعلمك يا محمد {مَا عِلِّيُّونَ} أي شيء هو {كتاب مرقوم يَشْهَدُهُ المقربون} تحضره الملائكة.
قيل: يشهد عمل الأبرار مقربو كل سماء إذا رفع {إِنَّ الأبرار لَفِى نَعِيمٍ} تنعم في الجنان {على الأرآئك} الأسرة في الحجال {يَنظُرُونَ} إلى كرامة الله ونعمه وإلى أعدائهم كيف يعذبون {تَعْرِفُ في وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النعيم} بهجة التنعم وطراوته {يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ} شراب خالص لا غش فيه {مَّخْتُومٍ ختامه مسك} تختم أوانيه بمسك بدل الطين الذي يختم به الشراب في الدنيا.
أمر الله تعالى بالختم عليه إكراماً لأصحابه أو ختامه مسك مقطعه رائحة مسك أي توجد رائحة المسك عند خاتمة شربه.
{خاتمه} على {وَفِى ذَلِكَ} الرحيق أو النعيم {فَلْيَتَنَافَسِ المتنافسون} فليرغب الراغبون وذا إنما يكون بالمسارعة إلى الخيرات والانتهاء عن السيئات {وَمِزَاجُهُ} ومزاج الرحيق {مِن تَسْنِيمٍ} هو علم لعين بعينها سميت بالتسنيم الذي هو مصدر سنّمه إذا رفعه لأنها أرفع شراب في الجنة، أو لأنها تأتيهم من فوق وتنصب في أوانيهم {عَيْناً} حال أو نصب على المدح {يَشْرَبُ بِهَا} أي منها {المقربون} عن ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهم: يشربها المقربون صرفاً وتمزج لأصحاب اليمين.
{إِنَّ الذين أَجْرَمُواْ} كفروا {كَانُواْ مِنَ الذين ءَامَنُواْ يَضْحَكُونَ} في الدنيا استهزاء بهم.
{وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ} يشير بعضهم إلى بعض بالعين طعناً فيهم وعيباً لهم.
قيل: جاء على رضي الله عنه في نفر من المسلمين فسخر منهم المنافقون وضحكوا وتغامزوا وقالوا: أترون هذا الأصلع فنزلت قبل أن يصل على إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم {وَإِذَا انقلبوا إلى أَهْلِهِمْ} أي إذا رجع إلى الكفار منازلهم {انقلبوا فكهين} متلذذين بذكرهم والسخرية منهم.
وقرأ غير حفص {فاكهين} أي فرحين {وَإِذَا رَأَوْهُمْ} وإذا رأى الكافرون المؤمنين {قالواْ إِنَّ هَؤُلاَءِ لَضَالُّونَ} أي خدع محمد هؤلاء فضلوا وتركوا اللذات لما يرجونه في الآخرة من الكرامات، فقد تركوا الحقيقة بالخيال وهذا هو عين الضلال {وَمَا أُرْسِلُواْ} وما أرسل الكفار {عَلَيْهِمْ} على المؤمنين {حافظين} يحفظون عليهم أحوالهم ويرقبون أعمالهم بل أمروا بإصلاح أنفسهم فاشتغالهم بذلك أولى بهم من تتبع غيرهم وتسفيه أحلامهم {فاليوم} أي من يوم القيامة {الذين ءَامَنُواْ مِنَ الكفار يَضْحَكُونَ} ثم كما ضحكوا منهم هنا مجازاة {على الأرآئك يَنظُرُونَ} حال أي يضحكون منهم ناظرين إليهم وإلى ما هم فيه من الهوان والصغار بعد العزة والاستكبار وهم على الأرائك آمنون.
وقيل: يفتح للكفار باب إلى الجنة فيقال لهم: هلموا إلى الجنة، فإذا وصلوا إليها أغلق دونهم فيضحك المؤمنون منهم {هَلْ ثُوِّبَ الكفار مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} هل جوزوا بسخريتهم بالمؤمنين في الدنيا إذا فعل بهم ما ذكر؟ والله أعلم. اهـ.